فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}.
الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي.. الوجه الكالح الطالح هو الربا!
الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.. والربا شح، وقذارة ودنس، وأثرة وفردية..
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد. والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده. ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئًا..
ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة.. الوجه الكالح الطالح!
لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود! عرضه عرضًا منفرًا، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة. ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى. ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة. وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقًا حيًا مباشرًا واقعًا. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي. في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها. وتتلقى- حقًا- حربًا من الله تصب عليها النقمة والعذاب.. أفرادًا وجماعات، وأممًا وشعوبًا، وهي لا تعتبر ولا تفيق!
وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة.. في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم.
أنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي.
والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس؛ ولا يتوافقان في نتيجة.. إن كلًا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة. وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب!
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود. يقيمه على أساس أن الله سبحانه هو خالق هذا الكون. فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان.. هو الذي وهب كل موجود وجوده..
وإن الله سبحانه وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء. وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة. استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته. فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ. وما وقع منه مخالفًا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف. فإذا انفذه قوة وقسرًا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض- كما هي في الكون كله- لله وحده. والناس- حاكمهم ومحكومهم- إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم- في جملتهم- أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكًا خالقين لما في أيديهم من أرزاق.
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل- لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية. ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة- فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه. مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له- فلا يكون أحدهم كلًا على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل. وجعل الزكاة فريضة في المال محددة. والصدقة تطوعًا غير محدد.
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم. ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال. وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة. وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره.
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق:
{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيودًا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلًا تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها.
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض..
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا؛ ونظام يقوم على تصور آخر. تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى. ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها.
إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر. فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء؛ وهو غير مقيد بعهد من الله؛ وغير ملزم باتباع أوامر الله!
ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال، وفي طرق تنميته، كما هو حر في التمتع به. غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط؛ وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين. ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته. وقد تتدخل القوانين الوضعية أحيانًا في الحد من حريته هذه- جزئيًا- في تحديد سعر الفائدة مثلًا؛ وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب، والغش والضرر. ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم؛ لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية!
كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد. هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال- بأية وسيلة- واستمتاعه به على النحو الذي يهوى! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به؛ ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين!
ثم ينشئ في النهاية نظامًا يسحق البشرية سحقًا، ويشقيها في حياتها أفرادًا وجماعات ودولًا وشعوبًا، لمصلحة حفنة من المرابين؛ ويحطها أخلاقيا ونفسيًا وعصبيًا؛ ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نموًا سويًا وينتهي- كما انتهى في العصر الحديث- إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شرًا؛ وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلًا ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهدًا ولا حرمة.. وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادًا، كما يداينون الحكومات والشعوب- في داخل بلادهم وفي خارجها- وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدًا!
وهم لا يملكون المال وحده.
إنما يملكون النفوذ.. ولما لم تكن لهم مبادئ ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق؛ بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادئ؛ فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم.. وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد؛ وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية!
والكارثة التي تمت في العصر الحديث- ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية- هي أن هؤلاء المرابين- الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية- قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها.. سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها.. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي.. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي؛ وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب. وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين- غير العمليين- وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه. الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانًا غير طبيعي ولا سوي. ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف عن أن يكون نافعًا للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفًا على حفنة من الذئاب قليلة!
إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة- وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم؛ وهم قد نشأوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق.
وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة دكتور شاخت الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقًا. وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية غير متناهية يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة. ومن ثم فإن المال كله في النهاية لابد- بالحساب الرياضي- أن يصير إلى الذي يربح دائمًا! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل. فإن معظم مال الأرض الآن يملكه- ملكًا حقيقيًا- بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!.
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة. فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة. فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة. ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء.. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين؛ وتضيق المصانع دائرة انتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء. وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارًا. فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء.. وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية. ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة!
ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين. فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية. أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك. إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها. وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف.. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون.. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار!
ونحن هنا- في ظلال القرآن- لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل- فنكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت:
الحقيقة الأولى:- التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم- أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان.
وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع. فأساس التصور الإسلامي- كما بينا- يصطدم اصطدامًا مباشرًا بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم.
والحقيقة الثانية: أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية- لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب- بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقًا، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخدّاع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام!
والحقيقة الثالثة: أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تمامًا، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته، ومحاسب عليه في آخرته. فليس هناك نظام أخلاقي وحده، ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء. وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية.
والحقيقة الرابعة: أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه، وشعوره تجاه أخيه في الجماعة؛ وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة. أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار. كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحًا مضمونًا، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين. ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيمًا.. والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ أنفع المشروعات للبشرية؛ بل همه أن ينشئ أكثرها ربحًا. ولو كان الربح إتما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول.. وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض. وسببه الأول هو التعامل الربوي!
والحقيقة الخامسة: أن الإسلام نظام متكامل. فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه؛ وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد.
والحقيقة السادسة: أن الإسلام- حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص- لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي، إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم.
ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه. ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة. وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة: المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث.
والحقيقة السابعة:- وهي الأهم- ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلمًا، بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمرًا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها.. فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها؛ وهو الآمر بتنميتها وترقيتها؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه. فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه. وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها. وإنما هو سوء التصور. وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالًا على بث فكرة: أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي. وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلًا بسعي بيوت المال والمرابين. وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر. وهي صعوبة تنشأ أولًا من عدم الإيمان. كما تنشأ ثانيًا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرة على التوجيه. وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة.
والحقيقة الثامنة: أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدًا على أساس غير الأساس الربوي.. ليست سوى خرافة. أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلًا! وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية- أو تعزم الأمة المسلمة- أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلًا، ونمت الحياة في ظله فعلًا؛ وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله، لو عقل الناس ورشدوا!
وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله.. فحسبنا هذه الإشارات المجملة. وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية؛ وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديمًا حتى ردها الإسلام إليه؛ هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم.
فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}.
إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب: {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}.
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة.. صورة الممسوس المصروع.. وهي صورة معروفة معهودة للناس. فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس، لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.. وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها. بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة.. ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة، هو القيام يوم البعث. ولكن هذه الصورة- فيما نرى- واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضًا. ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله. ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي. وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية؛ وتصورات أهل الجاهلية عنها.
إن الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة. وربا الفضل.
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة: إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه.
وقال مجاهد كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه.
وقال أبو بكر الجصاص: إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة. فكانت الزيادة بدلًا من الأجل فأبطله الله تعالى.
وقال الإمام الرازي في تفسيره: إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية. لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا ورأس المال باق بحاله. فإذا حل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل.
وقد ورد في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة».
أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة. كبيع الذهب بالذهب. والدراهم بالدراهم. والقمح بالقمح. والشعير بالشعير.. وهكذا.. وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به؛ ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا.. وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة!
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح.. مثلًا بمثل.. يدًا بيد.. فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء».
وعن أبي سعيد الخدري أيضًا قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا؟» قال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع. فقال: «أوَّه! عين الربا، عين الربا. لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به».
فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية. وهي: الزيادة على أصل المال. والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة. وكون هذه الفائدة شرطًا مضمونًا في التعاقد. أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا..
وأما النوع الثاني، فما لا شك فيه أن هناك فروقًا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة. وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعًا من التمر الجيد.. ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية، إذ يلد التمر التمر! فقد وصفه صلى الله عليه وسلم بالربا. ونهى عنه. وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد. ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضًا. إبعادًا لشبح الربا من العملية تمامًا!
وكذلك شرط القبض: يدًا بيد.. كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل، ولو من غير زيادة، فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره!
إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول صلى الله عليه وسلم بشبح الربا في أية عملية. وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية.
فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا- ربا النسيئة- بالاستناد إلى حديث أسامة، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية. وأن يحلوا- دينيًا- وباسم الإسلام!- الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية!
ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية.
فالإسلام ليس نظام شكليات. إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل. فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة. إنما كان يناهض تصورًا يخالف تصوره؛ ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته. وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادًا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدًا!
ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام. سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة. ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية، أو تتسم بسمة العقلية الربوية.. وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة. وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث. شعور الحصول على الربح بأية وسيلة!
فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدًا. ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي.
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}.
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم- وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب- إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء.
وكان هذا في العمليات الربوية الفردية. فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون. معرضون لحرب الله. مطرودون من رحمته بلا جدال.
إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارًا ولا طمأنينة ولا راحة.. وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالًا للشك أبدًا..
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم- في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف؛ والأمراض العصبية والنفسية- باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار. وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك!
إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة. وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عامًا.
في أمريكا، وفي السويد، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديًا.. أن الناس ليسوا سعداء.. أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة. وفي التقاليع الغريبة الشاذة تارة. وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة. ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب. الهرب من أنفسهم. ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها. فيهربون بالانتحار. ويهربون بالجنون. ويهربون بالشذوذ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدًا! لماذا؟
السبب الرئيسي طبعًا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة- على كل ما لديها من الرخاء المادي- من زاد الروح.. من الإيمان.. من الاطمئنان إلى الله.. وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه.
ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير.. بلاء الربا.. بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويًا معتدلًا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها. إنما ينمو مائلًا جانحًا إلى حفنة الممولين المرابين، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة؛ ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها الجميع؛ والتي تكفل عملًا منتظمًا ورزقًا مضمونًا للجميع؛ والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع.. ولكن هدفه هو إنتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح- ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعًا!
وصدق الله العظيم: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}.. وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم!
ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الربا. اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا}.
وكانت الشبهة التي ركنوا إليها، هي أن البيع يحقق فائدة وربحًا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحًا.. وهي شبهة واهية. فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة. والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة. أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة. وهذا هو الفارق الرئيسي. وهذا هو مناط التحريم والتحليل..
إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده.
ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة!
{وأحل الله البيع وحرم الربا}.
لانتفاء هذا العنصر من البيع؛ ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية؛ وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية..
وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية؛ دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله}.
لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه. فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله، يحكم فيه بما يراه.. وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته؛ فيظل يتوجس من الأمر؛ حتى يقول لنفسه: كفاني هذا الرصيد من العمل السيئ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت. فلا أضف إليه جديدًا بعد!.. وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد.
{ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه، ويعمقه في القلوب.
ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد، وجهل الموعد، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعًا؛ ويقرر أن الصدقات- لا الربا- هي التي تربو وتزكو؛ ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم. ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين:
{يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}.
وصدق وعيد الله ووعده. فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة.. إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء. وقد ترى العين- في ظاهر الأمر- رخاء وإنتاجًا وموارد موفورة، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد. وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد؛ وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده. ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم. حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة؛ كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يومًا بعد يوم- سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا- ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال!
وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون- الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع- وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه، والاطمئنان دائمًا إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها.
ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله- أفرادًا وجماعات- في ما لهم ورزقهم، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم.
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية، هم الذين لا يريدون أن يروا، لأن لهم هوى في عدم الرؤية! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدًا وقصدًا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت؛ فضغطوا عن رؤية الحقيقة!
{والله لا يحب كل كفار أثيم}.
وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي- بعد تحريمه- من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله، وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله. محمد رسول الله.. فالإسلام ليس كلمة باللسان؛ إنما هو نظام حياة ومنهج عمل؛ وإنكار جزء منه كإنكار الكل.. وليس في حرمة الربا شبهة؛ وليس في اعتباره حلالًا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم.. والعياذ بالله..
وفي الصفحة المقابلة لصفحة الكفر والإثم، والتهديد الساحق لأصحاب منهج الربا ونظامه، يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح، وخصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب، وقاعدة الحياة المرتكزة إلى النظام الآخر- نظام الزكاة- المقابل لنظام الربا:
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
والعنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر الزكاة. عنصر البذل بلا عوض ولا رد. والسياق يعرض بهذا صفة المؤمنين وقاعدة المجتمع المؤمن. ثم يعرض صورة الأمن والطمأنينة والرضى الإلهي المسبغ على هذا المجتمع المؤمن.
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن؛ الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.
وقد بهتت صورة {الزكاة} في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقًا في عالم الواقع؛ ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية. ويجعل الزكاة قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية. ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا!
بهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي لم تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية. إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي، القائم على الأساس الربوي.
وشهدت الكزازة والشح، والتكالب والتطاحن، والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس. فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة! وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات، ما لم يكن لهم رصيد من المال؛ أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية! وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به، ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام؛ وأن الحياة لا تقوم إلا على هذا الأساس!
بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحسانًا فرديًا هزيلًا، لا ينهض على أساسه نظام عصري! ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة، وهي تتناول اثنين ونصفًا في المائة من أصل رؤوس الأموال الأهلية مع ربحها؟ يؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة، ويربيهم تربية خاصة، بالتوجيهات والتشريعات، وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه! وتحصلها الدولة المسلمة، حقًا مفروضًا، لا إحسانًا فرديًا. وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة؛ حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة؛ وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان دينًا تجاريًا أو غير تجاري، من حصيلة الزكاة.
وليس المهم هو شكلية النظام. إنما المهم هو روحه. فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معًا متناسقة متكاملة. وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى. ولكنها حقيقة نعرفها نحن- أهل الإسلام- ونتذوقها بذوقنا الإيماني. فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم- وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها- فليكن هذا نصيبهم! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}.. ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب. فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون!
إن الله سبحانه يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون، أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده. ويعدهم بالأمن فلا يخافون. وبالسعادة فلا يحزنون..
{لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق، وبالتخبط والضلال، وبالقلق والخوف.
وشهدت البشرية ذلك واقعًا في المجتمع المسلم؛ وتشهد اليوم هذا واقعًا كذلك في المجتمع الربوي! ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزًا عنيفًا حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة؛ ونمسك بكل عين مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع.. لوكنا نملك لفعلنا.
ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة؛ لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها.. والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. والهدى هدى الله..
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة، التي تنبذ الربا من حياتها، فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة.. في ظل هذا الرخاء الآمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت؛ وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير:
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وأن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.
إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا. فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا. ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون. فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به. والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر. ولا يدع إنسانًا يتستر وراء كلمة الإيمان، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله، ولا ينفذه في حياته، ولا يحكمه في معاملاته. فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين. مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون!
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}.
لقد ترك لهم ما سلف من الربا- لم يقرر استرداده منهم، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلًا فيها.. إذ لا تحريم بغير نص.. ولا حكم بغير تشريع.. والتشريع ينفذ وينشئ آثاره بعد صدوره.. فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون. وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرًا رجعيًا. وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثًا! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية، ويسيرها، ويطهرها ويطلقها تنمو وترتفع معًا.. وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به. واستجاش في قلوبهم- مع هذا- شعور التقوى لله. وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته. فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان.
فهذه صفحة الترغيب.. وإلى جوارها صفحة الترهيب.. الترهيب الذي يزلزل القلوب: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}.
يا للهول! حرب من الله ورسوله.. حرب تواجهها النفس البشرية.. حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة.. فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟!
ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي. وقد أمر صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية- وأوله ربا عمه العباس- عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، حتى نضج المجتمع المسلم، واستقرت قواعده، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة. وقال صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة:
وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين. وأول ربا أضع ربا العباس.. ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية.
فالإمام مكلف- حين يقوم المجتمع الإسلامي- أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي، ويعتون عن أمر الله، ولو أعلنوا أنهم مسلمون. كما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامتهم للصلاة. فليس مسلمًا من يأبى طاعة شريعة الله، ولا ينفذها في واقع الحياة!
على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام. فهذه الحرب معلنة- كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة. وهي حرب على الأعصاب والقلوب. وحرب على البركة والرخاء. وحرب على السعادة والطمأنينة.. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة. حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف.. وأخيرًا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول. الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت. فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات. ثم تقع فيها الشعوب والحكومات. ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع- إن لم يقع هذا كله- هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة!
إنها الحرب المشبوبة دائمًا.
وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا.. وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع.. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها- وهي تخرج من منبع الربا الملوث- لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقًا؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون!
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المَشْرع الطاهر النظيف، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.
فهي التوبة عن خطيئة. إنها خطيئة الجاهلية. الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان، ولا نظام دون نظام.. إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان.. خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة. وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة. وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها، وفي نموها الاقتصادي ذاته. ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي!
واسترداد رأس المال مجردًا، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين.. فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة. لها وسيلة الجهد الفردي. ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة. ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق- بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح- وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه. ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة- على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة- ولا تعطيها بالفائدة الثابتة- ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت.. وللمصارف أن تتناول قدرًا معينًا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال.. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها.. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن!
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار.. فليس السبيل هو ربا النسيئة: بالتأجيل مقابل الزيادة.. ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة. والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدًا من الخير أوفى وأعلى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}.
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية. إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار. إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع!
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهومًا معقولًا في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد!- وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفرادًا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش.
فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها. تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية. فكلهم سواء. غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية، والمؤلفات العلمية، والأساتذة والمعاهد والجامعات، والتشريعات والقوانين، والشرطة والمحاكم والجيوش.. كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون..!!
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب.. ولكنا نعرف أنها الحق. ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}.
إن المعسر- في الإسلام- لا يطارد من صاحب الدين، أو من القانون والمحاكم. إنما ينظر حتى يوسر.. ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين. فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه- إن تطوع بهذا الخير. وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين. وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة. لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر!
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرًا كبيرًا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين، ويضيق عليه الخناق. وهو معسر لا يملك السداد. فهنا كان الأمر- في صورة شرط وجواب- بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء. وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار.
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظًا من مصارف الزكاة، ليؤدي دينه، وييسر حياته: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} {والغارمين} وهم أصحاب الديون. الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم. إنما أنفقوها في الطيب النظيف ثم قعدت بهم الظروف!
ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء، الذي ترجف منه النفس المؤمنة، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن، وله في ضمير المؤمن هول. والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان!
وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات. جو الأخذ والعطاء. جو الكسب والجزاء.. إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه. والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه. فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه.
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فرارًا منه لأنه في الأعماق هناك!
إنه الإسلام.. النظام القوي.. الحلم الندي الممثل في واقع أرضي.. رحمة الله بالبشر. وتكريم الله للإنسان. والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان!. اهـ.